من جمر إلى جمر: صفحات من ذكريات منير شفيق | فصل

«من جمر إلى جمر: صفحات من ذكريات منير شفيق» (2021)

 

صدرت عن «مركز دراسات الوحدة العربيّة» الطبعة الثانية من كتاب «من جمر إلى جمر: صفحات من ذكريات منير شفيق» (2021)، تدوين وتحرير نافذ أبو حسنة. وقد فاز الكتاب بـ «جائزة فلسطين العالميّة للآداب» (2022).

تختزن المذكّرات مسيرة المقاومة الفلسطينيّة من الذاكرة والتجارب السياسيّة والنضاليّة، ما يمكن أن يشكّل مخزونًا معرفيًّا ومعلوماتيًّا قد يمثّل رافدًا مهمًّا للهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة، على الرغم من قسوة تلك التجارب والخيبات الّتي تعرّضت لها، والثغرات الّتي وقعت بها في بعض محطّاتها.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مقطتفات من الكتاب بالتعاون مع الناشر.

 


 

مقتطف من الفصل (11) | أبو داود

بدأت أتعرّف إلى قيادة «حركة فتح» بعد التفرّغ في عمّان واحدًا بعد آخر، من خلال لقاءات كان يصطحبني إليها ناجي علّوش وأبو داود (محمّد داود عودة). كان أبو داود زميل دراسة في «كلّيّة الرشيديّة»، ثمّ تعزّزت الصداقة بيننا في مرحلة حكومة سليمان النابلسي 1956 - 1957 ستّة أشهر، إذ عُيِّنْتُ معلّمًا في قرية سلواد قضاء رام الله، الّتي كان أبو داود قد عُيِّن فيها منذ عام أو أكثر، الأمر الّذي فرض علينا صحبة في باصين، أحدهما يقطع طريق القدس - رام الله، وثانيهما إلى سلواد يوميًّا، ذهابًا وإيابًا.

عندما التحقت بـ «فتح» لم يكن ثمّة سوى شرط وحيد لي، وهو أنّني لن أتبنّى أيّة سياسة لا أوافق عليها، سواء صدرت من القيادة أو حتّى من مؤتمر الحركة...

للطرافة، كان أبو داود تحريريًّا، وكنت شيوعيًّا. بعد مُضِيّ شهر على هذه الرحلات اليوميّة، أصبح أبو داود منفتحًا على الماركسيّة، وأخذت أسئلته تنهال عليّ، ليصير بعد شهرين عضوًا في «الحزب الشيوعيّ». أمضينا بعد ذلك شهرين آخرين، ووقعت أحداث الإطاحة بحكومة النابلسي، لنغيب عن بعضنا أكثر من اثني عشر عامًا، ونلتقي متفرّغين في «حركة فتح» في عمّان، حيث ظلّت علاقتنا متينة كلّ الفترة الّتي قضيناها في الأردنّ. في بيروت، استمرّت العلاقة، وشكّلنا معًا لقاءات ’كولسة‘[1]، كما كانت تُسَمّى في «فتح»، قبل أن نفترق مختلفين لاحقًا. خلاصة القول هنا أنّني استطعت أن أتأقلم مع هذه الوضعيّة الجديدة الّتي اختلفت كثيرًا عن الوضعيّة الشيوعيّة السابقة، وانخرطت بشكل جدّيّ في «حركة فتح».

 

اليساريّ المطلوب فتحاويًّا

إنّ الّذي اتّخذ قرارًا جريئًا بقبول عضويّتي في «حركة فتح» هو المرحوم كمال عدوان، ذلك بالرغم من تحذير البعض له من دخولي إلى الحركة بسبب يساريّتي.

في ذلك الوقت، أصرّ كمال عدوان على موقفه، وقال لهم بعد أن تعرّف إليّ: "أنا هذا اللّي بدّي إيّاه!"، ويعني شخصًا مثلي، والسبب أنّ «حركة فتح» كانت تحضّر لمعسكر كبير لأنصار الثورة الفلسطينيّة من الأجانب، وأغلبيّتهم من اليسار وأصدقاء الثورة التابعين لحركات التحرّر. حينذاك قال لي: "ممتاز، تأتي وتحضّر معنا وتتسلّم مسؤوليّة في الحوار مع اليسار الأوروبّيّ". كان يرى، بعد تجربة، أنّني أستطيع أكثر من غيري التعامل مع اليساريّين والماركسيّين، وأعكس فكر «فتح» وخطّها؛ ففي أواخر عام 1968 احتدّت الصراعات والمنافسة في الساحة الفلسطينيّة، على مَنْ يجذب اليسار الأوروبّيّ الّذي يناصر القضيّة الفلسطينيّة إليه، فقرّرت «حركة فتح» في تمّوز (يوليو) عام 1969 أن تنظّم معسكرًا يضمّ نحو 500 من مناصري القضيّة الفلسطينيّة من يساريّي أوروبّا أساسًا، مع يساريّين من آسيا وأمريكا اللاتينيّة. وكان الأخ الشهيد كمال عدوان يعمل آنذاك بـ «مفوضيّة الإعلام والعلاقات الخارجيّة»، ونائبًا لفاروق القدّومي.

عندما التحقت بـ «فتح» لم يكن ثمّة سوى شرط وحيد لي، وهو أنّني لن أتبنّى أيّة سياسة لا أوافق عليها، سواء صدرت من القيادة أو حتّى من مؤتمر الحركة؛ فمن تجربتي الأولى مع «الحزب الشيوعيّ»، ترسّخت لديّ قناعة بأنّه لا يمكن أن أقبل تبنّي أيّة سياسات لا أقتنع بها بحجّة خضوع الأقلّيّة للأكثريّة، أو المستويات الأدنى للمستويات الأعلى (منهج الحزب اللينينيّ الّذي اقتبسته معظم الأحزاب، بما فيها القوميّة واليساريّة والإسلاميّة). وذكّرتهم بأنّني كاتب، وهذه أمانة بيني وبين القرّاء، ولن أعكس سياسة الحركة إلّا بقدر اقتناعي بها، وسأعلن معارضتي أيضًا لكلّ سياسة لا أوافق عليها، علمًا أنّني موافق تمامًا على كلّ منطلقات «فتح».

كانت القيادة في «فتح» مرنة جدًّا، حتّى إنّهم قالوا لي: نحن لا نخاف من الاختلاف، ولكلّ حادث حديث، وأنّه لا يهمّهم أن أكتب أو لا أكتب. وفعلًا، تميّزت «فتح»، لا سيّما بعد «معركة الكرامة» (1968)، بأنّها جمعت كلّ المنتمين إليها، من دون أن تشترط عليهم الالتزام أو الانضباط من الناحية الفكريّة أو السياسيّة. لقد كانت منظّمة مفتوحة وشبه متعدّدة، وكان هذا وضعًا مريحًا بالنسبة إليّ. وقد راح يسار «فتح» في ما بعد يسعى إلى أن يغيّر هذه المعادلة، ويعيد بناء التنظيم على أساس المركزيّة الديمقراطيّة في الأحزاب الشيوعيّة. كانت هذه من بين القضايا الّتي بان لي ما تحمله من خلل وسلبيّات عبر تجربتي الحزبيّة الشيوعيّة الطويلة. وقد حاولت إقناعهم لاحقًا بعدم الإصرار على هذا الشكل من التنظيم، وإبقاء «فتح» على ما هي عليه من مرونة وتعدّديّة، لكنّهم نجحوا في المؤتمر الثالث في إقرارها، مع أنّها بقيت حبرًا على ورق.

من خلال تجربتي في «الحزب الشيوعيّ»، وما استطعت أن أدرسه بعمق وأُخضعه للتجربة العمليّة، كما في قراءة تجارب البلدان الاشتراكيّة، كان اقتناعي يقينيًّا بكارثيّة النظام الرأسماليّ، ولا سيّما الرأسماليّ الإمبرياليّ الغربيّ، واستمررت بالتطلّع إلى الاشتراكيّة رديفًا للعدالة الاجتماعيّة.

 

الماركسيّة والقضيّة الفلسطينيّة

عند انضمامي إلى «حركة فتح»، قامت النظرة إليّ استنادًا إلى تاريخي الشيوعيّ وسُمْعَتي بصفتي ماركسيًّا، ولم يعبأ أحد بما خرجت به من التجربة مع النظريّة. كنت ما زلت في حينه ماركسيًّا ويساريًّا، ولكنّي كنت أيضًا قوميًّا ناصريًّا، وفلسطينيًّا فتحاويًّا، وهذه جميعها يمكن أن توجد بلا تعارض، وكانت لي تجربة نقديّة بالنسبة إلى السياسات والتجربة السوفييتيّة، في محاولة فهم الماركسيّة بعيدًا عن الشعارات والموضوعات التقليديّة، ولا سيّما حين نأتي إلى قراءة التاريخ العربيّ- الإسلاميّ والتجربة النهضويّة والقوميّة، وواقع التجزئة العربيّة، وإقامة الكيان الصهيونيّ. بمعنى أنّني كنت ماركسيًّا من نمط مختلف تمامًا عمّا كنت عليه في السابق، أو عن ماركسيّة اليسار الأوروبّيّ الجديد، أو ماركسيّة الاتّحاد السوفييتيّ أو الصين.

كان اقتناعي يقينيًّا بكارثيّة النظام الرأسماليّ، ولا سيّما الرأسماليّ الإمبرياليّ الغربيّ، واستمررت بالتطلّع إلى الاشتراكيّة رديفًا للعدالة الاجتماعيّة...

كانت الماركسيّة في تلك التجربة عبارة عن مرجعيّة نظريّة أسعى إلى إعادة توطينها، فتحويًّا، وفلسطينيًّا، وعربيًّا، على أسس جديدة، أسس شعبيّة وملائمة لبلادنا. لذلك، لم يكن لديّ أيّ إشكال في ما يخصّ تجاوز الشعارات الماركسيّة الشكليّة، على عكس ما كانت الحال بالنسبة إلى الّذين كانوا قد التحقوا لتوّهم باليسار. لقد كانت تلك الشعارات مستهلكة بالنسبة إليّ، مبهرة بالنسبة إليهم، بما فيها موضوعة المركزيّة الديمقراطيّة، وأصبحت النظريّة الماركسيّة مثل العجين الّذي يمكن أن أعيد تشكيله لأخبز منه كلّ مفاهيم «فتح» ومنطلقاتها وأهدافها. وذلك بعد إعادة تنظيرها بأعلى قدر من الأصالة الفتحويّة الثوريّة، والأصالة الماركسيّة كما صرت أفهمها. وهذا ما سبق أن تعاملت به مع الماركسيّة، بالنسبة إلى العروبة والوحدة العربيّة والقوميّة العربيّة.

كتبت كتابي الأوّل بعنوان: «حول التناقض والممارسة في الثورة الفلسطينيّة»[2]، وعندما قرأه أبو إياد[3] - رحمه الله - علّق قائلًا: "لم نكن نعرف في ’فتح‘ أنّ لدينا نظريّة بهذا العمق، ومنطلقات بهذه الثوريّة". لقد بيّنت من خلال الكتاب أنّ "الفكر الفتحويّ هو الأكثر ثوريّة وتقدّميّة والتقاء مع روح الماركسيّة، والأصحّ في فهم التناقضات، ولا سيّما تحديد التناقض الرئيسيّ والتناقضات الثانويّة، وكيفيّة معالجة كلّ منها". وقد فعلت الشيء نفسه في كلّ جدالاتي وسجالاتي مع الماركسيّين، وكنت ألاحظ أنّ هناك قدرًا من الهشاشة لدى كثير من اليساريّين الجدد، الّذين كانوا ينقلون نظريّات وشعارات غير مفكَّر فيها جيّدًا؛ فكنت قد دخلت مرحلة القراءة النقديّة، متسلّحًا بموضوعات غير شائعة من كتابات هو شي مِنَّه، وماو تسي تونغ، فضلًا على لينين وماركس وإنغلز. لذلك؛ في كتابي «حول التناقض والممارسة»، كتبت فصلًا أخيرًا عن تناقضات من طراز آخر، سمّيتها التناقضات الّتي تتعايش بحركة توازن دقيق، وهذه لم يكن ابتلاعها سهلًا ممّن اعتبروا أنّ ما فيها غير مألوف في الديالكتيك الماركسيّ.

 

مقتطف من الفصل (12) | نقاش في بيروت

تداعيات الخروج من الأردنّ كانت كارثيّة على قوى المقاومة الفلسطينيّة. اختلفتُ مع القيادة في نقطة أساسيّة، هي قصّة تسليم الأسلحة بعد أيلول (سبتمبر) 1970 في عمّان، فقلت لهم: "هذا خطأ كبير، مَنْ يسلّم سلاحه ينتهِ". هم اقترفوا أخطاء قبل ذلك، لكنّ الذروة كانت في تسليم السلاح، فاقتُلِعَت المقاومة من الأردنّ. هذا حقيقة ما حصل. ومع تسليم السلاح في عمّان كانت النهاية، صاروا يقولون نصعد إلى الجبل، أيّ جبل يعنون؟ هذا كلام فارغ في ظروف الأردنّ. هذه تركيبة جديدة نادى بها اليسار، أن "نصعد إلى الجبل". المشكلة، أنّهم في لحظة القرارات الحاسمة، اتّخذوا قرارات خاطئة، إذ عندما كان يجب ألّا يتشدّدوا، تشدّدوا بالشعارات وسلطة الشعب، وعندما جاءت مسألة سحب السلاح، لم يتشدّدوا، ولم يقولوا: نحن باقون لنقاتل، بل هم انسحبوا ’إلى الجبل‘ قبل الكلّ، لماذا؟ الآية كانت معكوسة، فعندما كان عليهم إخفاء السلاح وإبعاد المسلّحين من شوارع المدن، تمسّكوا بالسلاح الاستعراضيّ في الشوارع، وعندما أصبح تسليمه كارثة، سلّموه.

على أيّ حال، عندما خرجنا من الأردنّ، وقدِمنا إلى بيروت وانحشرنا فيها، كانت هناك حالة يأس قاتلة، فقدت المقاومة أهمّ وضع كان لها. كانت الدنيا كلّها بالنسبة إلى الثورة هي الأردنّ، ولبنان كان شيئًا ثانويًّا. حتّى المقاومة في قطاع غزّة انتكست بعد أيلول (سبتمبر) 1970 انتكاسة كبيرة. في بيروت انفجر نقاش حامي الوطيس، إذ اشتدّ الصراع كثيرًا بين الاتّجاهات والفصائل الفلسطينيّة كلّها.

المشكلة، أنّهم في لحظة القرارات الحاسمة، اتّخذوا قرارات خاطئة، إذ عندما كان يجب ألّا يتشدّدوا، تشدّدوا بالشعارات وسلطة الشعب، وعندما جاءت مسألة سحب السلاح، لم يتشدّدوا...

كان منزل ناجي علّوش، في عين الرمّانة في بيروت، مكان اجتماع ليليّ لكلّ قوى اليسار في «حركة فتح» الناقمة على قيادة الحركة، وكان أبو إياد، عضو «اللجنة المركزيّة» للحركة، يحضر أحيانًا، وكان أبو اللطف يأتي أكثر. كان النقاش يتّجه إلى نقد لقيادة أبي عمّار وأبي جهاد، ربّما كان أبو إياد يريد الإطلالة على هذا النقاش، واستيعاب مفاعيل هذا التحرّك النقديّ لحساب القيادة في نهاية المطاف.

لم يكن أبو اللطف بعيدًا عن هذه الغاية؛ فالعشرة البررة[4] الّذين شكّلوا «اللجنة المركزيّة»، بقيادة ياسر عرفات، تعاهدوا على أمرين: الأوّل، أن يكونوا صوتًا واحدًا ضدّ مَنْ يتمرّد داخل «فتح» وضدّ أعدائها الخارجيّين، والثاني، فلا بأس أن يتخاصموا ويتنافسوا داخليًّا، على المواقع والأدوار، حتّى لو وصل الأمر إلى حدّ الاتّهامات والتهجّمات. لكن، في اللحظة الحاسمة تعود الأمور إلى مجاريها (وفق العهد الأوّل)؛ فكانوا في تونس يبيتون ليلًا وحرسهم مستنفر ضدّ بعضهم بعضًا، فننام ونقول: وقع الانشقاق بين أبي عمّار وأبي إياد مثلًا، وعندما نصبح، نكتشف أنّهما تصالحا كأنّ شيئًا لم يكن. وكثيرًا ما يتّخذ المحتجّون ضدّ سياسات معيّنة أبا إياد أو أبا اللطف داعمًا لهم، ثمّ في اجتماع «المجلس الثوريّ» ينقلب الرأي، فتكون «اللجنة المركزيّة» متّفقة يدًا واحدة.

 


إحالات

[1] لقاءات للكادر تجري خارج الأطر التنظيميّة المعتمدة.

[2] منير شفيق، حول التناقض والممارسة في الثورة الفلسطينيّة (بيروت: دار الطليعة، 1971).

[3] صلاح خلف (1933 - 1991): سياسيّ وقياديّ فلسطينيّ، من مؤسّسي «حركة فتح»، وعضو لجنتها المركزيّة، ومسؤول «جهاز الأمن الموحّد» في «منظّمة التحرير الفلسطينيّة». اغتيل في تونس، بتاريخ 14 كانون الثاني (يناير) 1991.

[4] لقب أطلق على المؤسسين للمرحلة الثانية من «حركة فتح» غير القيادة المؤسسة الأولى عادل عبد الكريم وعبد الله الدنان وآخرون.

 


 

مركز دراسات الوحدة العربيّة 

 

 

 

مركز بحثيّ يهتمّ بالقضايا العربيّة ويعرض الحلول لها عبر عقد الندوات والمؤتمرات والدراسات الخاصّة المهتمّة بالقضايا العربيّة ومقرّه بيروت، لبنان.